الأحد، 30 يونيو 2013

إيطاليا.. الحُب و الشجون


إيطاليا.. الحُب و الشجون

"إيطاليا ملكة العالم، أرض دانتي، ومهد النهضة، ومبعث النور والحرية، لن تموت، بل ستبعث، وتعيد سيرتها الأولى " هذه الكلمات المتناغمة لم ينسها عقلي أبداً، منذ أن قرأتها من كتاب التاريخ للصف الأول الثانوي الذي كان لأختي الكبرى، أي قبل خمسة عشر عاماً، عندما راقت لي تلك الكلمات حداً يفوق الإعجاب ، ومن يومها أحببت ماتزيني وغاريبالدي، روحهم الآسرة، ورغبتهم العظيمة التي نجحت في توحيد إيطاليا إبان القرن التاسع عشر الميلادي..
ومع مضي السنين وبكل الخبرات التي اكتسبتها والمعارف التي تعلمتها، لم أستطع أن أضيف شيئا مثل ذاك النور وتلك الروح إلى طالباتي.. لم أخبرهم عن أجدادهم وكفاحهم ضد البرتغاليين، لم أخبرهم عن فلسطين، ولم أخبرهم عن أبطال عظماء..حتى وإن التزمت بكتابة أفعال ( يثمن، يقدر، يعتز..) لأهداف بسيطة في الكتابة وعميقة في المعنى، ولا زلت أراوض في ذات المكان، وأسأل نفس السؤال: كيف يمكن تعليم قيمة السلام دون الولوج إلى عالم الحروب ؟ وهنا لا أدعو إلى تدريس الغزوات والمعارك وإبراز الوحشية أو الغلو في كره أجناس من البشر؛ وإنما أقول لو أن مثل تلك العبارة أو ما يشبهها لو ووجدت في مناهجنا الحالية لحُلت نصف مشكلات المواطنة وتعزيز قيمها وأزمة الهوية واللامعرفة بالوطن الحق ، ويمكنني حتى أن أتصور من خلال ذلك قد تقل المشكلات الاجتماعية !
لأن هذه البلاد بتاريخها العريق، وصروحها الحضارية، وناسها العظماء، وامتدادها المكاني على مدى العصور، لا زالت مجهولة وشبه مغيبة؛ وإني أتساءل من المسؤول عن هذ الضياع والتغييب ؟ هل هي الكتب التي لم يخبرونا عنها، أو التي لم نجدها على رفوف مكتباتنا، أو التي بقيت مخطوطة، أو تلك التي طبعت طبعات راقية، وبقيت في أدراج أساتذة التاريخ.
هكذا هي إيطاليا بعد خمسة عشر عاما من معرفتي بها، أثارت شجوني، وعندما رأيتها، قالت لي: لينا، الحياة ليست كتاب تاريخ .
وحقاً، فقد رأيت التاريخ: ممجَداً ومجسَداً ومجدداً في روما، بل كل إيطاليا تعيش على تاريخها؛ ولكن بمفهوم العصر، وتطويعه اقتصاديا فمثلا: عنوان المنتجات الجلدية الأصلية كانت من نصيب فلورنسا؛ بينما صناعة الزجاج مشهورة في فينيسيا، وصناعة الليس في جزيرة بورانو ، كما أنه لبعض المدن قديسها وحاميها، بل تاجرها الذي بفضله بلغت تلك المدن في شهرتها العالم، وازدهرت اقتصاديا مثل: جمنيان في مدينة سان جمنيانو وفرانسيس في مدينة أسيسي ..وإذ نعود إلى فلورنسا، فقد شاهدت فيها منزل دانتي أليغييري .. دانتي، الذي كانت صورته دهراً معلقة على حائط غرفتي، مكللاً رأسه بإكليل الغار، ها أنا الآن لست أمام منزله فقط، بل داخل كنيسته أيضا، أقرأ في سطورها ولوحاته كوميدياه الإلهية، التي كنت أحفظ جزءا منها، مأخوذة من مختارات النسخة المصرية لمشروع القراءة للجميع .. وعلى طول هذه المدن تنتشر محلات الأيس كريم أو الجيلتيريا ومطاعم الباستا والبيتزا و أحيانا الشوكولاتة اللذيذة ..
بينما نحن نعيش ذات العصر، ببطء سلحفاة ثرية لم تُسوق لنفسها، وكأننا في أحد الحقب القديمة التي لم نستيقظ منها بعد، فبين أربعين سائحة وسائح من أميركا وبريطانيا بما فيهم المرشدة السياحية الإيطالية، لم تعرف إحداهن عُمان أو سلطنة عُمان، ومع كل الشروحات والتهجئة تم تقريبنا كالمعتاد إلى عمّان باعتبارنا أردنيين!
كان هذا الأمر مزعجا بالنسبة لي وأختي، وأظن أني غضبت، واكتشفت عودتي ثانيةً إلى قوقعة التأريخ غير المجدي..
ولست أنكر، فمن الطبيعي أن يعرفنا البعض، ولا يعرفنا البعض الآخر؛ لكن عندما تكون تلك هي بلادك ذات التاريخ التليد، والإرث الحضاري والجيولوجي .. عندما لا تحصي كم عدد المرات التي درست ودرًست هذه الجملة؛ فهي الحسافة دون سواها التي ستراودك حتما..
في اليوم الثالث من رحلتنا وفي مدينة أور فيتو، إذا بعازف وعازفة يعزفان كل على آلته.. يعرف البلاد المسماة عُمان..أتذكر أني وأختي أهملنا هذا العازف بادئ الأمر؛ ولكن قبل انتهاء جولتنا أعادتنا إليه ألحانه الجميلة فاشترينا أسطوانته الموسيقية وسألنا من أين أنتما وحين قلنا: عُمان.
قال: عمان أنا أعرفها ، لحظتها استغرقتني ابتسامة ليس لها مدى، وقلتها صراحة: أنت أول شخص يعرف بلادنا في إيطاليا .. حينها قال أنه من بيلاروسيا وأن منتخب بلاده لعب مع منتخبنا الوطني العام الماضي! لهذا أقول شكرا كرة القدم .. وجاء اليوم التالي أطرف وقعا، عندما قابلتنا سائحة برازيلية في مصعد أحد الفنادق، وحسب نطقها فإن بلادنا تصبح (هومان)!.

وفي هذه الرحلة برغم جمالها الا انها لم تخلو من الملاحظات واهمها .. عندما كنا في باص الرحلة نستمع إلى عزف موسيقى آلة الماندولين لمطرب إيطالي مشهور، وفيما بعد نشاهد فيلما وثائقيا قصير عن ساحة دل كامبو الذ تقام فيه سباق جوائز الخيل أو il palio في مدينة سيينا؛ لنأخذ خلفية عن أهميتها التاريخية عدا عن اعتبارها مسجلة ضمن الموروث الإنساني لدى اليونسكو قبل الوصول إليها ، كانت بعض الشوارع الإيطالية تنير درب سائق الباص، بخطوط بيضاء وحروف كبيرة على أسفلت الشارع نفسه، والمكان المتجه إليه، وإشارة الوصول دون الحاجة إلى النظر لأعلى وقراءة اللوحات الزرقاء، فالمسار واضح ولن يدور حول عشرات الدوارات ..
ـ لم تنكر مرشدتنا السياحية قلة نظافة بعض شوارع روما، أو تعثرها في بعض الأماكن؛ مما حدا ببعض السائحات إلى التصفيق لها على صراحتها تلك. وللعلم، فدورات المياه متوافرة في بعض محطات الوقوف على الطريق أو في المطاعم، بعضها مجاني، والآخر مدفوع وكلاهما نظيف، كما تتواجد سلال المهملات بأنواعها مصنفة ومتجاورة.. وهذا شيء لم يصل إلى ثقافتنا بعد ونحن دين النظافة ولدينا مسابقاتنا وجوائزنا البيئية.
ـ انقطعت الاتصالات فيما بيننا ـ عمان وإيطاليا ـ وكأننا انتقلنا إلى كوكب آخر وليس قارة أخرى، فشبكات اتصالاتنا وخاصة مسبوقة الدفع غير معروفة في إيطاليا، ولا تنفع حتى في إلقاء تحية !
ـ تتوارى أخلاقنا خلف الأقنعة أو أن بعضها لا زال مختزلا في الكتب العتيقة، وبينما يزداد فضول بعضنا، ومع مجاملاتنا التي لا تنتهي، فإننا ارتحنا في الرحلة مع سيدات من بريطانيا وأمريكا حيث البشاشة والابتسامة ورقي السؤال هي لغتنا المشتركة.. كان مبهرا أن أعمار أغلبهن 55 عاما فما فوق؛ ولم أقرأ في عيونهن البراقة سوى كلمتين: الحياة حلوة، ولم يبدو أنهن ينتظرن الموت بل يعيشن بانشراح وخير.. سميتهن عجائز وهن انشط مني وأنا أصغر عمراً منهن.. تلكم السيدات وبعضهن مع زوجه العجوز صعدن سبعا وسبعين درجة خاصة بالكولوسيوم (المدرج الروماني)، وليس غريباً أن يكن قد صعدن الطوابق الثمانية لبرج بيزا!
ـ تتشابه مساجدنا بكنائسهم، أو كنائسهم بمساجدنا حسب الصيرورة التاريخية، فضلاً عن التشابه الكبير في الشكل، أو التطابق في اللون بين أردية رجال الدين حسب مراتبهم المختلفة، بكثير من العباءات النسائية المنتشرة في بلادنا!
ـ ينتشر المدخنون الصغار والكبار بالإضافة إلى الكلاب ... بشكل كبير في إيطاليا!.
خلاصة:
يبلغ عدد سكان السلطنة، مواطنين ووافدين تقريبا 2.77مليون نسمة، على مساحة 309,500 كم2 ، والمتوقع أن يتواجد ثمانية أشخاص في الكيلو متر المربع الواحد.. بينما يصل عدد سكان إيطاليا إلى 60 مليون نسمة، وتبلغ مساحة أراضيها 301,338 كم2، وبالنسبة لكثافة السكان سيتواجد 201 شخصا تقريبا في الكيلومتر المربع الواحد، الذين لا يزدحمون على بعض في المهرجانات في مدينة واحدة بل عدة مدن ولا تدوس أقدامهم أو سياراتهم بعضهم البعض ..
لا يختنقون كلية لأن آلاف السياح والمهاجرين من كل الأصقاع موجودة في بلادهم؛ بينما نحن ويجب أن أعيد ذكر هذه المعلومة فإن عدد سكاننا لم يصل إلى المليون الثالث بعد وفيه وافدين من شبه القارة الهندية وشرق آسيا وغيرهم الذين تضييق يهم الأرض على وسعها، وليس أصدق من هذا الكلام إلا الصورة التي أراها عندما يغادر بعض المواطنين إلى مناطقهم في أيام المناسبات والإجازات الرسمية لتصبح مسقط خاوية إلا من امتلاء ثلاثة أرباع حدائقها وشواطئها المحدودة بهم .. ألم يحدث أن بقيت في مسقط وسألت نفسك ؟ أين أنا ؟! هل أخطأت العنوان ؟!
عشرة أيام علمتني وأمتعتني ، لم أشأ أن أكتب لكم تقريراً صحفيا عن المدن ومعالمها فكل ذلك موجود في الأنترنت ،وسبقتني إليه عيون وأقلام الصحفيين، وهؤلاء يتساوون معي ومعك في كتابة الأحلام وطرح الرؤى؛ ولكن كم وددت لو أني قرأت أو قد أقرأ عن جولات أو سفرات مسؤولينا، غير تلك الصور والأخبار المنشورة بمغادرتهم ووصولهم البلاد ومشاركتهم في الاحتفالات ..
وكم أطمح يوماً، أن لا أسمع تلك العلة المنوط بها أمر تصريف المشاريع وهي قلة الموازنة.. أود أن أسمع وأرى وأفتخر بذلك المسؤول الحكيم الذي قرر أن يخفض راتبه أو يتبرع بجزء من راتبه لأمر مفيد للمواطن دون أي ضريبة ..
نعم، أعلم أن التغيير يحتاج إلى وقت؛ ولكنني أعي جيداً أن كل تغيير بحاجة إلى تخطيط سليم، لا يتغير بتبدل المسؤولين الموظفين إلا في حالات التعديل أو التحديث؛ لتتحقق على الأقل مفاهيم الأصالة والمعاصرة التي نتغنى بهما دوماً
.







لينا بنت عبدالله البلوشية
Italiana32@hotmail.com