دنيا.. لـ لينا البلوشي



قد بلغ جنونك مبلغا لا يحتمل! هكذا صاحت بك أمك .. هذه المرة كانت تعني كل كلمة ، صوبتها أمامك كسهام جارحة صدرك ،مقطعة لأحشائك .. وتكاد بدورك تصيح: لا يفهمني أحد لا أحد ..؛ لكنك لا تجرؤ وتكتفي بهرولة سريعة إلى غرفتك، وترمي نفسك إلى أقرب كرسي وثير .. تحاول إخفاء وجهك بكفيك، لكنك لا تفلح، فإضاءة أكبر مصباح إلى أصغرها يجعلك ترقص وإذا عدت إلى رشدك تتأمل ألوان الطيف في بلوراتها السحرية .. ثم تفكر بالنوم ولا عجب ألا يراود جفنيك نعاس فما زلت ترى أن مساحة هذا البيت كبيرة تكفي لإسكان المئات من سكنى الأحياء" القذرة " كما تنعتهم أمك وتزيد إمعانا, لم لا يتحول جزء من هذا البيت إلى مزرعة؟ سيحل ذلك مشكلة العشرات العاطلين عن العمل ... تنقطع أفكارك فجأة وتترآى لك صورة أمك على جدار السقف بكل ألوان الطيف حيث أكبر مصباح، وتتمنى لحظتها لو ينقطع التيار الكهربائي، ويتوقف شرودك، عندما تسمع صدى أمك يتردد قي الفراغ: لم لا تحول البيت إلى جمعية خيرية ؟! لا تستطيع أن تخفي إبتسامتك إنها ولا شك فكرة جيدة ..وتقهقهان معا .. ما يلبث أن ينتهي ذلك عندما ترد إلى أذنيك طرقة باب تعدل مظهرك قليلا وتتجه إلى مكتبك ،وبصوت مخنوق تقول : ،يمكنك الدخول وتتفاجأ ، من : نعمان، ـ أهلا بابن العم ، ـ أين أنت ؟ لم نرك منذ مدة ، متى ستعاود السهر معنا ؟، هل نسيتنا ؟

لا يترك لك فرصة للإجابة فقد غدا يعلم أنه يحاول عبثا، وأدركت لحظتها أن أمك من تكون وراء مجيئه هذه الليلة ، قاطعًا شرودك متسائلاً: ما كل هذه الأوراق وتلك الكتب؟ باقتضاب أجبته: أحاول كتابة مقال .. مستنكرا ما الداعي؟ مستطردا في كلماته :أتذكر مقالتي التي صفق لها الجميع عدة دقائق كما لو كانوا يستمعون لأغنية من مطرب شهير؟ ..
أجل وماذا يعني ذلك ؟
ـ أشتريتها
ـ أعرف!
ـ لكنك لا تعرف من صاحبها الحقيقي!
ـ أنهكتك ثرثرته وفي محاولة بائسة منك لوقف هذا الحديث سألته : من؟
ـ أجابك مع ابتسامة : سالم ابن الخياطة !
هو لا غيره وقفت في مكانك عاجزا، و صحت فيه كيف ؟ اشتريتها، كيف ؟
ـ كان بحاجة إلى المال لمرض أمه " الخياطة " وقهقه ضاحكا بينما هجمت عليه بكلتا قبضتيك وبكل قوة فتحت الباب ورميته خارجا !؟

في الصباح الباكر كنت أول المستيقظين على الرغم من أنك لم تنم جيدا، وصادفت ليلة تساوي بحرا من المشكلات على آخره .. وبدون أن تُعلم أحدا ذهبت للبحث عن سالم "ابن الخياطة "! ووصلت إلى مكان قفر ومساكن صغيرة مبعثرة و شاهدت عيناك مشهدا لم تعهده من قبل، أطفال يصرخون يتقافزون هنا وهناك في الوحل وبملابس متسخة، تجمعت جمهرة منهم على سيارتك قد تكون أعينهم رأتها من قبل لكن أياديهم لم تحسن لذويهم اقتنائها .. لم تدرك ماذا تفعل، وأنقذك أحدهم: من أنت؟ ماذا تريد ؟ وسألك آخر: هل أنت طبيب ؟ بدأت تمسح على رأسه ؛لكن قاطعك شاب في مقتبل العمر: ما الذي تفعله هنا ؟ ماذا تريد ؟ ما كان منك إلا أن منحته بعض المال إلا أنه رماها في وجهك مستصرخا: عد من حيث اتيت .. متوعدا .. علمت فيما بعد أن والدة سالم توفيت قبل أيام ... من لحظتها بدأت تقسو على نفسك ووجدت أن هناك ما لا تفهمه وتسآلت عن شأنك فيما يحدث، وصلتك بسالم وأمه، وحتى بما يجري من حوادث فجائية شخصية وغير شخصية قد لا تمت إليك بصلة كما تعلمت من نشأتك في "منزل الأحلام "! في ساعة متأخرة دخلت غرفتك وأغلقت الباب والستائر وكل المصابيح سوى المصباح الأخضر الصغير، وانطويت على نفسك مثقلا بالهموم والأفكار المتضاربة ولعبت الخواطر الغريبة ليلتها بوجدانك وتوجست أن تخاطر لكنك بدأت تخطط باحترافية غير معهودة.. عرفت نفسك جاهزا للمهمة، فأنت حتى لم تتعطر بعطرك الأخاذ ولم تتهندم كالمعتاد واستقليت سيارة أجرة بعيدا عن أنظار أمك؛ لذا وصلت إلى مكان المقابلة متأخرا قليلا لكنك أخذت موقعك مع المنتظرين عند الباب الذي تجرى في داخله المقابلات لجميع الخريجين ثم بدأت تلحظ وجوما لافتا على الوجوه فجأة قررت أن تفتح الباب وفعلت حينها أبصرت نعمان يشير لك بإشارة خافية من عينيه ولبثت جامدا لمرآه إلا أن امرأة متعالية صاحت بأعلى صوتها : ماذا تفعلون هنا .. لا نريد أحد في الممر .. هيا إلى قاعة الانتظار هناك سنستدعيكم بأسمائكم .. وجرى الجميع بلمح البصر بما فيهم أنت إلى تلك القاعة .. ومرت ساعة وأنت تجوب القاعة بناظريك وتصافح هذا وذاك ... إلى أن مضت ساعتان دون جدوى فلم تجد أحدا ينادي بالأسماء وشاهدت ثلة من الأصدقاء عادت خاوية اليدين تتذمر فأدركت أنهم ولابد طردوا مرة أخرى .. راودك ضجر مقيت من قعودك هنا مكتوف اليدين، لكن كان لابد وأن تتذكر بأن هذا مبتغاك وربما تمردك وعلى الرغم من ذلك قررت أن تتحرك قليلا فخرجت من القاعة بعد مرور أربع ساعات ومن حسن حظك أن صادفت أحد معارفكم الذي بدوره نظر إليك باستنكار شديد وأخذك من فورك إلى قاعة المقابلة.. وانتظرت قليلا حتى حان دورك فقدمت أوراقك ثم جاء مراقب يسأل الموظف عن الأعداد التي لم تجرِ لها المقابلة بعد، فكان جواب الموظف : كدنا ننتهي بقي آخر ثلاثة.. ، خرجت من القاعة كمن ضرب بمطرقة على رأسه فلم تفعل شيئا سوى الانتظار والإجابة على أسئلة محطمة في ما بعد، مما جعلك تولي أدراجك مسرعا في حالة أقرب ما تكون إلى الهذيان ولم يفارق خيالك صياح أمك بكل قوتها :مجنون!